عند الشروع بأي معاملات تجارية دولية يُتّخذ الدولار الأميركي كعملة أساسية، فالدولار هو مركز الاقتصاد العالمي، واستنادًا عليه، تحدد قيمة كل عملة. لكن قبل ذلك كانت بقعة الصدارة الاقتصادية خالية ومحلّ المنافسة للجميع. بعد الحرب العالمية الثانية أنهك الاقتصاد العالمي فكانت محطة إعادة انعاشه فندق ماونت واشنطون في بريتن ودز (Mount Washington,Bretton Woods)، أقيم فيه مؤتمر دولي حضره ممثلون من 44 دولة بهدف إيجاد الاستقرار الاقتصادي للعالم بعد الحرب.
من هذا المؤتمر كانت انطلاقة صندوق النقد الدولي والبنك العالمي. قد يظنُّ النّاس أنّ المؤتمر كان بالغ الاحترافيّة والإتقان عند النّظر لما أخرجه إلا أن الصفة الوحيدة التي يمكن وصفه بها هي الفوضى العارمة، فكان المحللون الاقتصاديون سكارى يحتسون الخمور بشراهة وقد خيف عليهم من التسمم بالكحول وكانوا لا ينالون أي قسط من الراحة، فقد كانوا يعملون تحت ضغط حاد يصل إلى 18 ساعة عمل بلا توقف بهدف ذو عبئ كبير وهو “إصلاح العالم”.عُرف المؤتمر بكثرة الرجال الذين يغمى عليهم، وأصيبوا بالسكتات القلبية من شدة الإرهاق وآخرون أغرقت وجوههم الدموع وهم منكبون على ركبهم.
كان الاقتصاد في انحدار قبل الحرب العالمية الثانية، فقد سبق الحرب الكساد الكبير مما قاد الدول إلى أن تُعْرضُ عن التداول الخارجي للحفاظ على مواردها الداخلية. كما استغنى العالم عن معيار الذهب، فحينها كانت عملة كل دولة مدعومة بمقدار محدد من الذهب، وبعد التخلي عن هذا المعيار، أصبح بإمكان الدول طباعة مقدار غير محكوم من العملات، وهذا ما حصل بالفعل، مما أدى لإحداث خلل في سوق التجارة بالعملات فقد أصبحت العملات غير مستقرة ولم يقدر التجار على أن
كان الهدف الأساسي من مؤتمر Bretton Woods هو إحداث الاستقرار في عملات العالم كي يتجه الناس إلى المداولة مرة أخرى.
تصدر المؤتمر متنافسون أساسيين، البريطاني جون كاينز (John Maynard Keynes) والأميركي هيري وايت (Harry Dexter White) كان كاينز من أشهر الاقتصاديين في ذلك الوقت فقد كان أحد المساهمين الفاعلين في حل أزمة الكساد الكبير في بريطانيا وكانت تتمحور حوله التغطيات الإعلامية في فترة المؤتمر فيكاد لايذكر اسم مؤتمر Bretton Woods دون أن يكون مقرونًا باسم جون كاينز وأصبحت الغرفة التي قطن فيها كاينز من أحد المعالم السياحية.
أما وايت فكان بمثابة جندي مجهول لم يعرف أحد عنه الكثير سوى أنه من أكثر الشخصيات المكروهة، كان يحتل منصب مساعد وزير المالية وعلى عكس كاينز الذي ولد في أسرة أرستقراطية ولد وايت من والدين أجانب وقد عمل بجهد كي يصل إلى منصبه.
"سوف نحاول أن نصنع شيئًا من مقدور جلالتكم فهمه"
كان اقتراح كاينز لإيجاد الاستقرار الاقتصادي هو صنع عملة جديدة مخصصة للمعاملات الدولية، فتستخدم كلّ دولة عملتها المحلية داخل الدولة والعملة الجديدة للمعاملات الخارجية كي تكون هذه العملة بديلة عن الذهب، بل إن البريطانيين قاموا بالبدء بمسابقة لتسمية هذه العملة ومن الأسماء المقترحة كانت (فينت، يوني بانكس، بيتس، باندول) أما الاسم الذي وقع عليه اختيار كاينز هو بانك كور. وكان من ضمن خطته أن يكون مقر هذه العملة في لندن لأن في ذلك الأمر مصلحة بريطانيا التي قد خسرت معظم مخزون ذهبها لدعم الحرب.
كان وايت يحمل نفس المنظور لكن عوضًا عن صنع عملة جديدة بديلة عن الذهب أراد أن تكون هذه العملة هي الدولار،لم يطرح وايت هذه الفكرة بوضوح، بل حرص على أن يكون الدولار جزءًا أساسيًا من كل المعاملات الدولية وفي جميع الوثائق المقدمة أدرج عبارة “عملة موازية للذهب” حيث تكون هذه العملة هي المخزون الأساسي للدول، علمًا بأن الولايات المتحدة كانت تمتلك 80% من الذهب .
كان وايت شخصية أمريكية نمطية فقد كان يحاول أخذ زمام السيطرة في كل الأمور وكان يحاول إدراج الدولار في كل شيء مما أثار جنون كاينز ليقول “هذا أمر غير محتمل فبكل بساطة يبدو أنه يوجب علينا إلغاء جميع النقاشات” ليرد عليه وايت ساخرًا “سوف نحاول أن نصنع شيئًا من مقدور جلالتكم فهمه”.
عملة بديلة للذهب
خلال أحد الاجتماعات كان كاينز منشغلًا في الطرف الآخر من الفندق في اجتماع يتناول تفاصيل البنك العالمي وكان يحل مكانه في اجتماع صندوق النقد الدولي دينس روبيرتسين (Dennis Robertson) الذي وقع في شباك وايت حيث طلب أحدُ الاقتصاديين الهنود شرح عبارة “عملة بديلة للذهب” التي تكرّرت في جميع المستندات ليقدّم دينس روبيرتسين المساعدة قائلًا “لنفترض أن هذه العملة هي الدولار” قام وايت بشكر روبيرتسين وأشار إلى أن المستندات سوف يتم تحويلها للجنة تدقيق، كانت هذه اللحظة الذهبية التي كان ينتظرها وايت لحظة إقتراح أحد الاقتصاديين البريطانيين أن يكون الدولار هو العملة الموازية للذهب.
في تلك الليلة قامت لجنة التحقيق بمراجعة مستندات صندوق النقد الدولي المكونة مما يقارب 96 صفحة لتغير كل عبارات عملة موازية للذهب الى دولار أمريكي، أصبحت جميع المستندات المالية الجديدة تحتوي على عبارة دولار أمريكي، مع الاتفاقية الجديدة أصبح على جميع الدول أن تدعم عملاتها بالدولار الأمريكي فعلى الدول أن تملك مخزونًا من الدولارات في حال تغيُّرِ سعره وأن تعرف كل دولة ما تعادله عملتها مقابل الدولار وللانضمام إلى أي من المؤسسات الدولية التي بدأت في Bretton Woods على الدول دفع رسوم بعملة موازية للذهب، أي الدولار بل إن مقر البنك العالمي وصندوق النقد الدولي أصبحا في الولايات المتحدة.
لم يلاحظ أحد ما كان يحصل سوى وايت فقد كان الجميع في عجلة من أمرهم بعد استمرار المؤتمر لمدة ثلاثة أسابيع منهكة وكان الفندق على وشك أن ينفذ من جميع الطعام حتى أن رئيس المؤتمر وقع على الاتفاقية كما بدى من الخطبة النهائية دون قراءتها، لم ينتبه اي احد الى التفاصيل سوى وايت.
رغم كلّ هذا، لا يتذكّر النّاس Harry Dexter White على أنّه الرجل الذي جعل الدولار الأمريكي عملة العالم، بل يتذكرونه بما عرف عنه بعد عدة أعوام وهو كونه جاسوسًا سوفيتيًّا.
0 التعليقات
إرسال تعليق